بقرة إسرائيل التي ستفجر المنطقة

بقرة إسرائيل التي ستفجر المنطقة

د. محمد مكرم بلعاوي

المدير العام لرابطة برلمانيون لأجل القدس

 

سلط تقرير للقناة 12 العبرية قبل أيام الضوء على انعكاسات صعود الصهيونية الدينية في إسرائيل، وجهودها لتحويلها إلى دولة شريعة دينية يهودية متطرفة، وتزايد وتيرة التحضيرات لبناء الهيكل المزعوم من قبل الحكومة الإسرائيلية الحالية، والذي يتمثل ذروتها في تسريع وتيرة تهويد القدس ورعاية خرافة "البقرة الحمراء"، اللازمة لتطهير اليهود من أجل بناء "الهيكل الثاني" على أنقاض المسجد الأقصى المبارك.

التقرير الذي عرض تدرب الكهنة على طقوس التطهير بـ "البقرة الحمراء" التمهيدية لبناء الهيكل في إحدى المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، وتعرض أمام العائلات والأطفال، احتوى التقرير على كمية هائلة من السخرية والعجب من كل قصة البقرة الحمراء وكل ما اتصل بها، وذلك ناجم فيما يبدو من عدم تصديق جمهور واسع من الإسرائيليين ومنهم فريق الإعداد أن الخرافة الدينية هي الحاكمة الفعلية لإسرائيل في الوقت الحالي، وأنّ مستقبل المنطقة ربما يكون متوقفاً على شعرتين بيض يمكن أن تظهران في جلد البقرة الحمراء، على حد تعبير التقرير.

وممّا يثير السخرية أكثر أنّ أحد الكهنة المستوطنين برّر جاهزية "شعب إسرائيل" لهدم المسجد الأقصى وهو واحد من أقدس الأماكن لدى المسلمين وبناء الهيكل بتوفر"روائح البخور للمبخرة والشموع"، فيما تمّ جلب رمز الطقوس إلى المؤتمر في عربة مجرورة وهي "البقرة" من أجل "كتابة المستقبل القريب جدًا" على حد وصف الصحفي، والتي جاءت خصيصًا من ولاية تكساس على متن رحلة جويّة وذلك بعد محاولات كثيرة، وينتظر المستوطنون أن تتم البقرة البالغة من العمر سنة وسبعة شهور العامين لرؤية مواصفاتها واذا كانت ستبقى حمراء وخالية من الشعرتين البيض. ومن مواصفات هذه البقرة أنّ لا تُحلب ولا تَحرث ولا تجرّ عربة وأن لا تُنجِب وأن تكون خاليةً تماماً من أي عيبٍ جسديّ، مما يعني أنّه يتبقى خمسة شهور على تهديد مستقبل المنطقة!

إنّ قدوم "المخلص" الذي سيبني الهيكل بعد 2000 سنة من الانتظار حسب عقيدة المستوطنين الإسرائيليين، سيتوقف على نمو هذه البقرة بعد خمسة شهور، وهي التي تفصل بين ملايين اليهود "المؤمنين" على حد وصف الصهيونية الدينية وبين اقتحامهم المسجد الأقصى المبارك وبناء "الهيكل"، باعتبار أن طقوس تطهير ملايين اليهود المصابين بـ"النجاسة الكبرى" تعتمد على رماد البقرة الحمراء، التي ستُذبح وتُحرق مع خشب الأرز وبعضٍ من عروق عشبة الزوفة، ثمّ يُخلط رماد هذا المزيج بماءٍ من مصدرٍ جارٍ، ثم يُنثر القليل منه نثراً على المصابين بالنجاسة.

والطهارة من النجاسة عبر البقرة الحمراء تُعدّ شرطًا لدى الحاخاميّة الرسميّة لتوسيع اقتحامات الأقصى التي حرّمت اقتحام الأقصى دون طقوس الطهارة، ومن مناصرين هذه الفكرة هو وزير المالية "بتسلئيل سموتريتش" الذي خلافاً لزميله "بن غفير" لم يقتحم الأقصى أبداً لهذا السبب، فيما يكرّس "معهد الهيكل" نفسه ومنذ تأسيسه عام 1987 لتحقيق الطقس التطهري، وإيجاد البقرة الحمراء وأنشأ برنامجاً خاصّاً عام 2015، لتربية قطيعٍ من البقرات الحمراء، وأطلق المعهد حملة تبرعاتٍ شعبيّة لزراعة أجنّةٍ مجمّدة في رحم بقرةٍ تربّى في حظيرةٍ محليّة في محاولةٍ لتوظيف التقنية الحيويّة لتحقيق النبوءة التوراتية في برنامج أسمته "تنشئة البقرة الحمراء في إسرائيل".

ونقل المعهد البحث إلى الولايات المتحدة في ولاية تكساس الأميركية باعتبارها سوقاً أكبر لتربية الأبقار، وحصلت على الاحتضان والرعاية الماديّة من منظمةٍ صهيونيّة يمينيّة تسمّي نفسها "بناء إسرائيل" يموّلها في الولايات المتحدة من تبرعات المسيحيين الإنجيليين، ثمّ جرى انتقاء أفضل خمس بقرات مرشّحة لتحقيق المواصفات وشحنها جوّاً إلى فلسطين المحتلة في 15 أيلول/ سبتمبر 2022، وتجري تربية هذا القطيع بشكل سري في مزرعة تتبع لمعهد الهيكل في بيسان في الأغوار الشمالية.

إسرائيل التي اعتمدت في نشأتها على مجموعة من الخرافات الدينية والإيدولوجية على رأسها خرافة "شعب بلا أرض، لأرض بلا شعب"، وتسببت نتيجة لذلك بمآسي للمنطقة بأكلمها، نرى حكومتها الحالية تقدم أسطورة جديدة ستأخذ العالم إلى مواجهة خطرة وعواقب غير محسوبة قائمة على فكرة الـ "بقرة حمراء"، التي استوردتها جماعات الهيكل، وتعوّل عليها لفرض حقائق جديدة في المسجد الأقصى المبارك، وتجعل مصير المنطقة متوقف على كون البقرة خالية من الشعر البيض أم لا، واذا كانت نقية الحمرة أو لا لتشكيل الشرط الديني.

هذه الخرافة تكشف أنّ المشروع الصهيوني بذاته هو مشروع رجعي أبعد ما يكون عن الحداثة والعصرنة، وأنّ هذه الطبقة الدينية المتطرفة هي من تقود المشروع الصهيوني وليس سموتريتش وبن غفير فقط، وهي تحظى بدعم حكومي لانّها أصبحت تمثل غالبية الطبقة الحاكمة، رغم بُعد مقولاتها عن العقلانية.

يقدّم المشروع الصهيوني نفسه للعالم على أنه مشروع حداثي متطور، وأنّ إسرائيل تمثل واحة التطور والتقدم والديمقراطية في المنطقة، لكن الواقع مخالف لهذا، فمع صعود القيادات اليمينية إلى الحكم داخل إسرائيل، أصبح واضحًا أن هذا المشروع قائم على الخرافات الدينية التي لا أساس لها من الصحة، والمجموعة التي تصف نفسها بأنها علمانية وكانت تنظر إلى دولة "إسرائيل" باعتبارها ملاذاً لليهود المضطهدين من أوروبا، أصبحت على الهامش وخضعت للمجموعة الدينية التي شكّلت الحكومة الحالية والتي تؤمن بالتفسيرات التوراتية والتلمودية وتتبنى أكثرها تطرفًا، وتتبنى التهويد في القدس والاستيطان في الضفّة الغربيّة بدون قيود أو حدود، وتعمل على حسم هويّة القدس دينيّاً وضم الضفة وتقوم بسياسة التطهير العرقي تجاه الفلسطينيين.

وحتى تلك الأطراف التي تصف نفسها بأنها علمانية تحالفت مع تيار الصهيونية الدينية وقدمت التسهيلات للتنفيذ خرافة البقرة الحمراء، كما جرى في الحكومات الائتلافية التي شكّلها غانتس مع نتنياهو، والتي شكّلها يائير لبيد، زعيم المعارضة "العلمانيّة" الحالي، مع نفتالي بينيت المنتمي لتيار الصهيونية الدينية، والتي جرى في عهدها استيراد البقرات، وتنظيم حفل استقبال لها في المطار، وتقديم مشروع لمتنزه على "جبل الزيتون" في القدس ليكون محل إقامة طقوس التطهير بالبقرة الحمراء.

والعالم الذي يتحدث عن حلول سياسية، أصبح ينقاد خلف هذه العصبة الضاربة التخلف والعنصرية، وهو ما يعبر عن اختلال ميزان العدالة في العالم، وسببه أنّ القوى الكبرى اختارت أن تقف الى جوار المشروع الصهيوني الاستعماري وتدعمه حتى النهاية، وفي ذروة الأزمة الإسرائيلية الداخلية الحالية والأزمة بين الولايات المتحدة والقيادات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة لديهم استعداد لدعم اسرائيل دبلوماسيًا من خلال توسيع التطبيع وعسكريًا من خلال مد إسرائيل بأحدث الأسلحة والتقنيات، بينما المطلوب من الفلسطيني أنّ يظل مستكيناً ويتم مقاطعته إذا قاوم الاحتلال.

اخترنا لكم

تغذية العنف الفلسطيني كسياسية إسرائيلية للتهجير

تغذية العنف الفلسطيني كسياسية إسرائيلية للتهجير

محمد مكرم بلعاوي المدير العام لرابطة برلمانيون لأجل القدس   في 8 يونيو الماضي، فُجع فلسطينيو الداخل المحتل عام 1948، بجريمة مروعة في الناصرة راح ضحيّتها خمسة مواطنين بينهم أطفال، وهي ليست الجريمة الأولى التي... اقرأ المزيد